في عالمٍ لم تعد فيه السلطة حكرًا على الجيوش، ولا التأثير حكرًا على الوزارات، تبرز الدبلوماسية الموازية كإحدى أكثر الأدوات نعومةً ودهاءً في تشكيل العلاقات الدولية وتوجيه الرأي العام وبناء الجسور بين الشعوب. إنها القوة التي تتحرك خارج قاعات التفاوض الرسمية، لكنها كثيرًا ما تُحدِث ما لا تقدر عليه القاعات الكبرى.
ومن هذا المنطلق، جاءت الندوة التي نظّمتها المنظمة الدولية للدبلوماسية الموازية والإعلام والتسامح تحت عنوان: “الدبلوماسية الموازية قوة ناعمة لتطوير العلاقات الدولية”، لتعيد النقاش إلى مساره الحقيقي: من يحتكر تمثيل الشعوب؟ ومن يصنع السلام؟ وأين تُبنى الثقة؟
الدبلوماسية الكلاسيكية – كما عرفناها – ترتكز على أجهزة الدولة، البروتوكول، اللغة الصقيلة، والإجماع المدروس. لكن في زمن ما بعد الحداثة، لم تعد العلاقات بين الدول تُبنى فقط عبر السفراء، بل عبر الفاعلين الجدد: منظمات المجتمع المدني، رجال الدين، الإعلام، الجامعات، الرياضيين، وحتى المؤثرين الرقميين.
هذا ما يجعل الدبلوماسية الموازية ليست بديلاً عن الرسمية، بل مُكمّلة لها، وربما أذكى منها. فهي تمتلك هامشًا أكبر للمناورة، ومساحة أوسع للمبادرة، ومصداقية مجتمعية لا يملكها كثير من السياسيين.
واحدة من أهم النقاط التي تميّز بها النقاش، هي إبراز البُعد الروحي للمملكة المغربية في علاقتها مع أفريقيا. فالمغرب لا يدخل القارة من باب الاقتصاد فقط، بل من باب الرمزية والقيادة الروحية، بفضل عمقه الصوفي المتجذر، ومكانة أمير المؤمنين، وانتشار الطرق الصوفية ذات الامتداد المغربي في عدة بلدان.
إن الروحانية المغربية ليست ترفًا تراثيًا، بل قوة ناعمة حقيقية قادرة على نسج شبكات من الثقة والاستقرار والولاء الرمزي. وإذا أضفنا إلى ذلك الحضور الثقافي، والتعاون الأكاديمي، وتبادل الطلبة، فإننا أمام معمار ناعم لعلاقات دولية طويلة المدى، لا تُبنى على المصالح وحدها، بل على القيم المشتركة.
من القضايا الذكية التي طرحتها الندوة أيضًا، هي مسألة الأمن الاقتصادي كأداة لتحقيق السلم. فالدبلوماسية الموازية، حين تربط بين الشعوب عبر الاقتصاد التضامني، التعاون اللامركزي، الشراكات الصغيرة، والاستثمار في رأس المال البشري، تُسهم في نزع فتيل النزاعات بطريقة وقائية.
ليس السلاح وحده من يمنع الحروب، بل المصلحة المشتركة، والتكامل، والحوار المستمر. وهو ما تستطيع المنظمات، الجامعات، والفاعلون الثقافيون أن يصنعوه بعيدًا عن ضجيج الساسة.
القوة الناعمة، في جوهرها، لا تُمارس بالضغط، بل بـ”الإشعاع”. تؤثر لأنها تُقنع، وتجذب لأنها تُلهم، وتؤسس لعلاقات لأنها تُقدّم نموذجًا محترمًا ومحبوبًا.
وهنا تطرح الدبلوماسية الموازية سؤالًا وجوديًا على الدول: هل تريد أن تُحترم لأنك قوي؟ أم تُحب لأنك مُلهِم؟ المغرب – كما برز في هذه الندوة – يملك كل مقومات هذا النموذج الثالث: دولة لها تاريخ، ولغة روحية، وموقع استراتيجي، وقدرة على التوازن.
إن هذه الندوة لم تكن مجرد مناسبة خطابية، بل رسالة واضحة: المغرب الجديد يحتاج إلى دبلوماسية جديدة. دبلوماسية تشاركية، مفتوحة، لا تحتكرها وزارة، ولا تختزلها شخصية. فمن يحمل صورة الوطن اليوم؟ ليس فقط السفير في السفارة، بل الأستاذ في الجامعة، والمثقف، والشاب الحامل لراية التنوع، وحتى الفنان في مهرجان شعبي بأعماق أفريقيا.
الدبلوماسية الموازية، في المحصلة، ليست فقط قوة ناعمة، بل أفق أخلاقي جديد للعلاقات بين الشعوب: حيث لا تتحدث الدول فقط بل تتعارف الشعوب، وتتحاور الثقافات، وتتعايش الذاكرات.